ادعمنا في نشر واستمرارية هذا الموقع

في المقال السابق تحدثنا حول الاسم يحيى، ووضعنا القارئ الكريم أمام سؤال: ماذا يعني الاسم يحيى، وما السرّ في تسمية النبي الكريم بهذا الاسم؟! وقد يكون من التسرّع أن نبادر إلى إعطاء وجهة نظر في هذا الأمر، ولكننا في هذه العُجالة سنلفت الانتباه إلى بعض وجوه الشبه بين يحيى وعيسى، عليهما السلام، مما قد يساعد في الوصول إلى السّر من وراء هذه التسمية.
تُستهل سورة مريم بالحديث عن زكريا، عليه السّلام، وعن دعائه وطلبه أن يهبهُ اللهُ وليّاً يرثه في دعوته الصالحة. وتُصوّر لنا الآيات الكريمة دهشته عندما بُشّر بالولد الذي اسمه يحيى؛ جاء في الآية 8 من سورة مريم:"قال ربّ أنّى يكونُ لي غلامٌ وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغتُ من الكِبَر عِتيّاً".
واللافت هنا أنّ هذه الدهشة قد اعترت مريم، عندما بُشّرت بعيسى، عليهما السّلام، جاء في الآية 20 من سورة مريم: "قالت أنّى يكونُ لي غلام ولم يمسسني بشرٌ ولم أكُ بغيّاً". ونلاحظ هنا التماثل في التعبير عن الدهشة: "... أنّى يكونُ لي غلامٌ ". وكذلك نلاحظ التماثل في الإجابة عن هذا التساؤل، جاء في الآية 9 من السّورة:" قال كذلكَ قال ربّكَ هو عليَّ هيّن..."، وجاء في الآية 21:" قال كذلِكِ قال ربُّكِ هو عليَّ هيّن...".
جاءت البشرى أولاً بيحيى، فكانت مفاجِئة لزكريا، عليه السلام، وكانت التسمية مِن قِبلِ الوحي قبل ميلاد يحيى، عليه السلام. وكذلك الأمر في عيسى، عليه السلام؛ فقد جاءت البشرى بميلاده مفاجئة لمريم، عليها السلام، وكانت تسميته مِن قِبل الوحي أيضاً.
كان ميلاد يحيى، عليه السّلام، مخالفاً للمألوف، فقد ولدته أمٌّ عاقر. وكان ميلاد عيسى، عليه السلام، على خلاف المألوف أيضاً، فقد ولدته عذراء لم يمسّها بشر. وهذا تشابه لافت متعلّق بميلاد أولاد الخالة.
جاء في الآية 10 من سورة مريم، على لسان زكريا، عليه السّلام: "قال ربّ اجعل لي آية، قال آيتُكَ ألا تُكلّم النّاس ثلاث ليالٍ سويّا"، وجاء في حق مريم، عليها السلام، في الآية 26 من السورة:"... فإمّا تَريِنَّ من البشرِ أحداً فقولي إنّي نذرتُ للرحمن صوماً فلن أُكلّم اليومَ إنسيّاً"، وجاء في الآية 11 من السورة:" فخرجَ على قومهِ مِنَ المِحرابِ فأوحى إليهم أنْ سَبِّحوا بُكرةً وعشيّاً"، لقد تمّ الأمر بإشارة ولم يتكلم زكريّا، عليه السلام. وكذلك الأمر في قصة مريم، عليها السلام. انظر الآية 29 من السورة:"فأشارتْ إليهِ قالوا...". جاء في حقّ يحيى، عليه السّلام، وذلك في الآية 14 من السورة :"وبرّاً بوالديه ولم يكن جباراً عصيّاً". وجاء في حق عيسى، عليه السّلام:"وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً". وهنا نلاحظ الآتي:
1. ليس من أساليب المدح أن ننفي عن الممدوح الصفات السلبيّة، وهنا تمّ نفي الجبروت والعصيان والشقاوة. فلماذا ؟
2. تاريخيّاً لم يتَّهم أحدٌ من النّاس عيسى أو يحيى، عليهما السّلام، بالجبروت، بل على النقيض من ذلك فقد وصف عيسى بأنّه رسول السلام، وكذلك الأمر فيما يتعلّق بسيرة يحيى، عليهما السّلام.
الذي نراه أنّ في ذلك نفياً لتُهم ستكون في المستقبل. وهذا مفهوم بالنسبة إلى عيسى وليس بمفهوم بالنسبة إلى يحيى، عليهما السّلام؛ فقد تواترت الأحاديث الدّالة على نزول عيسى، عليه السّلام، في آخر الزمان. وصحّ في الأحاديث أنه يحكم أربعين سنة، وورد أنه لا يَقبلُ إلا الإسلام، وبالتالي لا يقبلُ الجزية من أهل الكتاب. ومثل هذا الأمر قد يَحمِلُ المخالفين على اتهامه بالجبروت، أي أنّ صورته عند غير المؤمنين ستختلف؛ فبعد أن كان عندهم رمزاً للسلام يُصبِح في نظرهم رمزاً للجبروت.
أما يحيى، عليه السّلام، فلم يمارس جبروتاً، فمن أين ستأتي هذه التهمة؟! ومثل هذه الملاحظة تجعلنا نعيد النظر في فهم صفة الحَصُور الواردة في حق يحيى، عليه السّلام. جاء في الآية 39 من سورة آل عمران:"فنادتهُ الملائكةُ وهو قائمُ يُصلّي في المحرابِ أنّ الله يُبشرُك بيحيى مُصدِّقاً بكلمةٍ من الله وسيّداً وحَصُوراً ونبيّاً من الصالحين". وكلمة حَصُور هي على وزن فعول. وقد ذهب الكثير من المفسرين إلى أنّها على معنى مفعول، أي محصور وممنوع من إتيان النساء. والذي نراه أنّ الأقرب إلى ظاهر اللفظ أن نقول إنه حاصر لأعدائه، ويؤيّد هذا وصفهُ بأنه سيد:"وسيداً وحَصُوراً"، فهو يسود قومه ويحصر أعداءه، الذين هم أعداء الحق. وهنا يثور سؤال: لم يُروَ في التاريخ أنّ يحيى، عليه السلام، قد حصر أعداءه، فمتى يكون ذلك إذن؟!
جاء في حقّ يحيى، عليه السلام:" وبَرّاً وبوالديه..."، وجاء أيضاً: " وسلامٌ عليه يومَ وُلِد ويوم يموتُ ويوم يُبعثُ حيّاً ". أمّا ما يُقابلهُ، مما جاء في حقّ عيسى، عليه السلام، فهو:" وبَرّاً بوالدتي..."، وجاء أيضاً:" والسلام عليَّ يومَ وُلِدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعثُ حيّاً ".
الدارس لأحاديث المعراج يلاحظ أنّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد التقى في كلّ سماءٍ من السماوات السّبع برسول واحد إلا ما كان في السماء الثانية فقد التقى فيها بعيسى ويحيى، عليهما السّلام. فلماذا هذا كله، وإلى ماذا يشير؟
لم نقصد هنا أن نعطي الإجابة عن هذه التساؤلات، وإنما قصدنا إثارة الدافعيّة لدى القارئ ليتابع مثل هذه الملاحظات وغيرها، فالقرآن مليء بالحِكم والأسرار، وعندما نتدبّرهُ بمنهجية سويّة يعطينا من وافر حِكَمه وأسراره. ولعلنا، في مقام آخر، أن نقوم ببسط وجهة نظرنا في هذه المسالة الجليلة.