جاء في الآية 25 من سورة الحديد: "... وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ... " ، وجاء في الآية 6 من سورة الزمر :" ... وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ... " .
جاء في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي المتوفى عام 792 هـ :" ... فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال، وهي عالية على الأرض، وقد قيل إنّه كلما كان معدنه أعلى كان حديده أجود. والأنعام تُخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث، ولهذا يقال: أنزل ولم يقُل نزّل، ثم الأجنّة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الأرض. ومن المعلوم أنّ الأنعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء، وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى، وتُلقي ولدها عند الولادة من علو إلى سُفل .
لا يختلف موقف ابن أبي العز عن موقف الكثير من المعاصرين الذين يصرفون معاني الألفاظ عن الحقيقة اللغوية لأنهم ببساطة لا يقبلون القول بنزول الحديد والأنعام من السماء، وهم بذلك يُحكّمون معارفهم القاصرة في كلام الله العزيز الحكيم. فمن أين لهم القول بأنّ الأنعام قد خلقت في الأرض ؟! وهل يستحيل في العقل أن يُنزّل الخالق القدير ما شاء من المخلوقات لحكمة يريدها ؟! وإذا كنا لا نتصور ذلك فكيف أمكننا أن نتصور حادثة الإسراء والمعراج، وحادثة نزول آدم وزوجه إلى الأرض. أمّا أهل الإلحاد فإنهم أسرى الواقع المحسوس ويذهلون عن كل ما وراءهُ من أسباب وعلل.
ذكر الأستاذ زغلول النجار – وهو مختص في هذا الباب – بأنّ العلماء يجزمون بأنّ الحديد لم يتكون في الأرض ولا في المجموعة الشمسية، لأنه يحتاج إلى طاقة هائلة لا تتوافر في المجموعة الشمسية ... ومن هنا نجدهم يُقدّمون تفسيراً لوجود الحديد في الأرض يتمثل في انفجار بعض النجوم المحتوية على عنصر الحديد وتناثر مكوناتها في الفضاء مما أدى إلى نزول الحديد بكثافة على الأرض، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الأرض هشة غير متماسكة، وفي الوقت الذي لم يكن الغلاف الجوي قد تكوّن. مما أدى إلى اختراق ذرات الحديد لطبقات الأرض المختلفة.
وبغض النظر عن صدق ذلك علمياً إلا أنّ هذا التفسير يجعلنا نفهم من غير حيرة ولا ارتباك قوله تعالى:" وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ "، فلا داعي للتأويل، ولا داعي لصرف الألفاظ عن ظاهرها وحقيقتها اللغوية.
وما يقال في الحديد يُقال في الأنعام، إلا أنّ نزول الأنعام وتميُّزها على باقي الحيوانات والدواب يدفعنا إلى التنبّه إلى ضرورة إجراء دراسات مستفيضة تتعلق بالأنعام، لأنّ الآيات الكريمة وضعت أيدينا على بداية الخيط الذي يمكن أن يقودنا إلى اكتشاف بعض أسرار الخلق.
جاء في الآية 6 من سورة الزمر:" ... خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ... ".
يذهب أهل التفسير إلى أنّ النّفس الواحدة هنا هي نفس آدم، عليه السلام، والذي خُلق خلقاً متميزاً، كما هو الأمر في خلق المسيح، عليه السلام: "...ž إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ... " آل عمران: 59 وكذلك الأمر في خلق حواء التي خُلقت من نفس آدم على خلاف القاعدة في باقي الأحياء، ثم كان خلق باقي البشر وفق قاعدة التزاوج. وهذا يدل على كرامة المخلوق البشري وأهميته ودوره القادم في سيادة الكون.
" ... وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ... ": من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين. واللافت أنّ الكلام عن نزول الأنعام جاء بعد الكلام عن خلق آدم وحواء وقبل الكلام عن قانون الزوجية، وقد يشير ذلك إلى أنّ نزول الأنعام كان قبل نزول الإنسان وتمهيداً لنزوله، وذلك لأهمية الأنعام التي ذللها الخالق الحكيم: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)" يس: 71-73 واللافت هنا قوله تعالى: " ... مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ..." وكيف لا يكون الأمر لافتاً ومثل هذا التعبير لم يرد في القرآن الكريم إلا في الآية 75 من سورة ص، وذلك في حق آدم، عليه السلام :"t قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " فمثل هذا التعبير يشير إلى خصوصية لهذا الخلق الكريم. أمّا خصوصية خلق الأنعام فقد ترجع إلى أهميتها للإنسان المستخلف في الأرض.
جاء في الآية 132–133 من سورة الأنعام:" وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) ": واللافت هنا تقديم الأنعام على البنين، وهذا يعزز ما ذهبنا إليه من إنزال الأنعام قبل أن يحصل التزاوج والإنجاب لآدم وحواء على الأرض.
جاء في الآية 28 من سورة فاطر:" وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ" فاللافت هنا تمييز الأنعام عن باقي الدواب، وقد يعزز هذا ما ذهبنا إليه من الخلق الخاص للأنعام. والمتدبر للقرآن الكريم يلاحظ أهمية الأنعام للإنسان، وهذه الأهمية تزداد إلى درجة أنك اليوم لا تكاد تحصي المنافع التي يُحصِّلها الإنسان المعاصر من هذه الأنعام. وبذلك ندرك بعض أسرار محاربة الإسلام للعقائد الشركيّة التي كانت تُحرم بعضاً من الأنعام في صورة البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ... بل لا تزال آثار هذه العقائد الفاسدة تعمل سلبياً في حياة بعض الأمم، مثل الهندوس الذين يُقدّسون البقرة.
لا شك أنّ تذليل الأنعام وتدجينها للإنسان من الأمور اللافتة في خلقها، فكأنّ واقعها يقول: لقد خُلِقتُ لخدمة هذا الكائن المكرم، وجُعلت قريبة منه. بل هي بحاجة إلى رعاية الإنسان وحمايته، فانظر إلى الخراف، مثلاً، هل تملك لنفسها شيئاً أمام اعتداء الحيوانات المفترسة، على خلاف ما هو عليه الغزال من سرعة وحذر.
إنها دعوة مُوجّهة إلى أهل العلم والنظر لعلنا نعيد تقييم نظرتنا إلى أصل هذه الكائنات ووظيفتها وما يحمله خلقها من أسرار. ولا يفوتنا في النهاية أن ننبه إلى أنّ السورة السادسة في ترتيب المصحف هي سورة الأنعام، وأنّ أطول سورة من سور القرآن الكريم هي سورة البقرة.