جاء في الآية 55 من سورة آل عمران: ((إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ... )) .
تنص الآية الكريمة على أن وجود أتباع عيسى، عليه السلام، يستمر إلى يوم القيامة. وقد التبس ذلك على بعض أهل التفسير فذهبوا إلى القول بأن قانون الفوقية المنصوص عليه في الآية يخص النصارى في مقابلة اليهود، وهذا فهم عجيب يتناقص مع أساسيات العقيدة الإسلامية والتي هي عقيدة المسيح، عليه السلام، وعقيدة الأنبياء والرسل من لدن آدم حتى محمد صلوات الله عليهم جميعاً. فلا يجوز إذن أن نعتبر النصارى أتباعاً للمسيح عليه السلام.
جاء في الآية 14 من سورة الصف: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ )).
يُفهَمُ من الآية الكريمة أنّ دعوة عيسى، عليه السلام، قد نجحت لأن الفكرة أصبحت ظاهرة، ولا تكون الفكرة ظاهرة حتى تكون معلنة وغالبة. وينبغي أن لا نخلط بين ظهور الفكرة والظهور المادّي المتمثل بالظهور العسكري، لأن العبرة بظهور الفكرة وإشراقها في النفوس، والسلطان الحقيقي هو سلطان الفكرة على النفوس، لأنها المحرك الأساس للأفراد والمجتمعات؛ فلو نظرت اليوم إلى تسلط اليهود على الفلسطينيين في الأرض المقدّسة لوجدت أن السلطان الحقيقي هو سلطان الإسلام لأنه الموجه والمحرك الحقيقي ولوجدت أن الفكرة الصهيونية تعاني من الانحسار والتلاشي في نفوس الكثير من اليهود.
جاء في الآية 123 من سورة النحل: ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) . وجاء في الآية 95 من سورة آل عمران: ((قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) . وجاء في الآية 125 من سورة النساء: ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)).
فنحن إذن من أتباع إبراهيم عليه السلام، وهذا لا يتناقض مع كوننا أتباعاً لمحمد، صلى الله عليه وسلم، لأن دين الله واحد، وهي مسيرة واحدة ولواء واحد مذ رفعه آدم، عليه السلام، أما اختلاف الشرائع فمرده إلى اختلاف لأحوال الأمم والشعوب، بل أنت تجد في شريعة الإسلام اختلافاً في الأحكام الشرعية يناسب اختلاف الأحوال؛ فصلاة المسافر تختلف في بعض أحكامها عن صلاة المقيم، وكذلك الأمر في الصيام ... الخ.
فإذا كان محمد، عليه السلام، متّبعاً لملة إبراهيم فلا شك أن عيسى عليه السلام هو أيضاً مُتبعاً لملة إبراهيم، عليه السلام. وإذا كنا أتباعاً لمحمد وإبراهيم، عليهما السلام، فإننا أيضاً أتباعاً لعيسى ولغيره من رسل الله الكرام، صلوات الله عليهم جميعاً. نقول ذلك لنبين أنّ قوله تعالى: ((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) يُقصَد به أهل الإيمان الصحيح الذين لم ينقطع وجودهم في الأرض بعد عيسى، عليه السلام، واستمروا يحملون لواء الحق والحقيقة حتى بُعِث الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبذلك تستمر مسيرة الحق إلى يوم القيامة. جاء في الحديث الصحيح: (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ... )) وهذا كلام صريح باستمرار ظهور الفكرة إلى أن يرث الله تعالى الأرض وما عليها.
الدارس لبعض ما كُتِب حول القرون الستة من عيسى إلى محمد، عليهما السلام، يلاحظ أن هناك حركة ظاهرة تستعلن بفكرتها الحقة وتكون حجة على الأمم، ومن ذلك الجماعة المسيحية المسماة (الموحدون) ، وكذلك أصحاب الأخدود، بل إن قصة إسلام سلمان الفارسي تبين لنا حقيقة استمرار الرسالة الحقة، فهذا سلمان، رضي الله عنه، يتتلمذ على راهب، وعندما تحضر هذا الراهب الوفاة يوصي سلمان براهب آخر يلحق به ويتتلمذ عليه، حتى يوصيه الأخير بأرض ذات نخيل سيظهر فيها النبي الخاتم صلوات الله عليه. ويبدو أن إسلام هذه الجماعات الحاملة للحقيقة أدى إلى انصهارها في الأمة الإسلامية وبالتالي تندثر أخبارها لعدم تميزها، على خلاف الأمر في الجماعات النصرانية التي لم تُسلِم.
جاء في الآيتان 139- 140 من سورة آل عمران: ((وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ... )). فمعلوم أن هذه الآيات من سورة آل عمران جاءت تعقيباً على ما أصاب المسلمين في معركة أُحُد. فما ينبغي لمن استعلى بالفكرة الإيمانية الحقّة أن يضعف لمجرد هزيمة لحقت به في عالم الأشخاص، فما ذلك إلا قانون اقتضته الحكمة الربانية التي تُخرّج أتباعها وتنصر الحقيقة. فالسيطرة المادية للكفر في مرحلة من المراحل يجب أن لا يوهن من الفكرة الحقة التي تجعل من صاحبها الأعلى دائماً وفي كل الأحوال؛ فهذا بلال بن رباح، رضي الله عنه، ينتصر بفكرته وهو مطروح فوق الرمال الملتهبة يعاني جسده من سياط سيده الذي كان يشعر بعمق هزيمته أمام خادمه المستعلي بفكرته.
جاء في الآية 76 من سورة يوسف: ((وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)) بذلك يتبيّن أن الفوقية لا تعني دائماً فوقيّة ماديّة، ولا شك أن هم عيسى، عليه السلام، كان الفكرة وانتصارها وفوقيتها على الأفكار المناقضة لها، لذلك كان من المناسب أن يُطَمأن، عليه السلام، عند رفعه، فيُقال له: ((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) ، ثم يأتي الوحي الكريم فيبرز لنا نحن المسلمين هذه الحقيقة، والتي هي قانون ربّاني يستمر إلى يوم القيامة، فأين مصداق ذلك في الواقع؟
تتجلى فوقية الفكرة أولاً بشعور المؤمن بتفوقها على غيرها من الأفكار المناقضة لها، وثانياً بإحساس الكافرين بضعف فكرتهم وقصورها وعجزها عن المواجهة، وذلك عندما تكون ساحة المعركة هي العقول والقلوب وواقع الفطرة الإنسانية السويّة.
وإليك بعض مؤيدات تفوّق الفكرة الإسلامية:
1. على الرغم من تفوق الغرب المسيحي علميّاً وتكنولوجياً واقتصادياً وعسكرياً، وعلى الرغم من كونه قبلة العالم في العلم والمعرفة إلا أننا نجد أنّ التحول نحو الفكرة الإسلامية من الظواهر المتصاعدة في المجتمعات الغربية. في المقابل نجد أنّ المجتمعات الإسلامية تُعجَب بمدنية الغرب ولكنها في المقابل لا تقبل فلسفته. من هنا لا نلحظ أي تحول نحو العقيدة المسيحية على الرغم من توافر الدواعي الكثيرة المشجعة على ذلك.
2. تعتبر فرنسا الدولة الرائدة في تاريخ الديموقراطيات الغربية، حيث كانت الثورة الفرنسية المثال والقدوة لجميع الأوروبيين، وعلى الرغم من ذلك نجد أنّ الجمهورية الفرنسية العريقة تضيق ذرعاً بعدد قليل من الطالبات الصغيرات اللواتي يلبسن الحجاب المجتزء والمتمثل بغطاء الرأس. فتشهر سلاح القانون في وجوههن البريئة تحت زعم أن ذلك من أجل حماية القيم الديموقراطية، نعم، فمن أجل حماية قيم الديموقراطية، لا بد من الانقضاض على أبسط مبادئ الديموقراطية!! وعندما نعلم أنّ المدرسة فرنسية وان المدرّس فرنسي، وعندما نعلم أن الطالبات صغيرات يمكن التأثير عليهن واستيعابهن ومسح أدمغتهن في اتجاه الفكرة الغربية، عندما نعلم ذلك كله ندرك أن الجمهورية الفرنسية بعظمتها وعراقتها قد باتت تشعر بالدونية في مواجهة الفكرة الإسلامية، وباتت مدركة لعجزها عن التأثير حتى في فكر الطفل المتلقي، وأدى هذا الشعور بالعجز والدونية إلى الانقضاض على أهم مبادئها ولم تبال أن كشفت عورتها أمام العالم. ويمكننا أن نفهم دوافع مثل هذه التصرفات والتي لا يمكن أن تكون تصرفات الواثق الذي يشعر بتفوقه تجاه الآخرين. أما رفع الصوت والتغني بقيمه فلا يدل إطلاقاً على ثقته بقوة فكرته وأناقتها، بل إن الأمر على العكس من ذلك تماماً.
3. المستقرئ للفكر الاستشراقي والتبشيري الغربي يجد أن الاهتمام الأول هو بالفكرة الإسلامية، ويدهشك الكم الهائل من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى تزييف الفكرة الإسلامية. وهذا يدل على شعورهم بقدرة الفكرة الإسلامية على اختراق حصونهم الفكرية. ويندر أن تشعر بموضوعية هؤلاء عندما يتحدثون عن الإسلام، أمّا إذا كان حديثهم عن غير الإسلام فإن الموضوعية تتجلى في أفضل صورها، ولا شك أن الذي يلجأ إلى الكذب والتلفيق في مواجهة فكرة ما فإنما هو يعلن عجزه عن أن يكون صادقاً، لأن الصدق عندها سيضطره إلى الاعتراف والإذعان، وتعمد إخفاء الحقيقة يشير إلى الإقرار الداخلي بقوة الفكرة وصدقيتها.