ادعمنا في نشر واستمرارية هذا الموقع

الدارس للتاريخ يلاحظ أنّ فترة حكم سليمان، عليه السلام، تتسم بالغموض إلى درجة أنّ الأبحاث الأثريّة، حتى الآن، لم تشف غليل الباحثين عن الحقيقة. ويلفت انتباه المتدبر للقرآن الكريم أنّ ألوان الخوارق تُميّز عهد هذا النبي الكريم، بل إنّ ما وهب له من ملك لا ينبغي لأحد من بعده. وعندما يُذكر سليمان، عليه السلام، تثور في الأذهان التصورات والخيالات المتعلقة بعالم الفخامة والجلال، والسيطرة والجمال، والغموض الساحر. وعندما نعلم أنّ سليمان، عليه السلام، قد أقام مملكة الحق والعدل بعيداً عن عنصرية كفرة اليهود، وخلافاً لرغباتهم وأطماعهم، ندرك السر من وراء الصورة غير الإيجابية التي يعطيها العهد القديم عن سليمان، عليه السلام، فهو بزعمهم ملك ظالم، عبد الأوثان إرضاء لزوجاته الوثنيات، وكان ساحراً، ومات كافراً.
((واتَبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان...)) البقرة: 102
"واتبعوا ما تتلوا": فبدل أن يتبعوا ما جاء به الرسول، عليه السلام، من الحق والحقيقة، وجدنا بعضهم يتبع ما تناقلته القوى الشيطانية، ولا تزال تتناقله بدلالة استخدام الفعل المضارع (تتلوا).
تتلوا: فالمشافهة هي الوسيلة الأساسية في تناقل مثل هذه المزاعم.
تتلوا الشياطين:
معلوم أنّ الشياطين تكون من الإنس ومن الجن، بدليل ما جاء في الآية 112 من سورة الأنعام: )( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن)) وبدلالة قوله تعالى: (( من الجِنّة والناس)). ونحن نواجه أمثال هؤلاء كل يوم؛ فنجد الشيطان منهم يحمل لواء الإلحاد ويبذل قصارى جهده في معاداة الدين وأهله، ونجد الواحد منهم يمتلئ غيظاً وحقداً على أهل الإيمان، ويُفاجأ الإنسان بوجود أمثال هؤلاء، ممن يهيمون بالمعصية والفجور وينفرون من الطهارة والقنوت. إنهم حقيقة من حقائق الحياة، وأمثال هؤلاء تتعلق قلوبهم بكل انحراف وتلهج ألسنتهم بكل هجر.
"ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان":
واستخدام (على) يشير إلى أنّ ما يُتلى ويُقال هو من قبيل الكذب والافتراء على سليمان، عليه السلام، وعلى عهده المبارك.
"وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا":
فما نسب إلى عهد سليمان، عليه السلام، من افتراءات هو من قبيل الكفر، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بممارسة السحر.
"يعلمون الناس السحر وما أنزل على المَلَكين":
يفيد ظاهر النص بأنّ الشياطين – ورجح بعض علماء التفسير أنها هنا شياطين الإنس – كانوا يعلمون الناس أمرين: الأول هو السحر، والثاني هو ما أُنزل على المَلَكين. وهذا يعني أنّ ما أنزل على المَلكين ليس بسحر، ولكن له علاقة بالسحر، فما هو ؟
الدارس للتاريخ القديم يلاحظ أنّ بعض المجتمعات البشرية قد بلغت مبلغاً عظيماً في بعض العلوم والمعارف، ولا يزال الكثير من أسرار هذه العلوم مجهولاً، كما هو الأمر في بناء الأهرامات في مصر الفرعونيّة، وكما هو الأمر في أسرار التحنيط عند الفراعنة. ويبدو أنّ الثورة الصناعية التي كانت المقدمة للعلوم المادية المعاصرة جعلت البشرية تسير في مسار يختلف عن مسار العلوم قبل الثورة الصناعية. ويبدو أيضاً أنّ التطور التكنولوجي في القرون المتأخرة قد أضعف ما تحصّل لدى الإنسان من مسارات معرفيّة تستند إلى قوى ماديّة غير محسوسة. ومن هذه العلوم السحر، الذي بقيت منه آثار يتعامل بها من لا خلاق لهم من أهل الزيغ والانحراف.
ومعلوم أنّ مدينة بابل تعتبر من أقدم المدن التاريخية التي ظهرت فيها حضارة عظيمة برع أهلها في مجالات شتى، ولا تزال مُعلّقات بابل تُذكر كعجيبة من عجائب الدنيا السبع.
"وما أنزل على المَلَكين ببابل":
يبدو أنّ بابل قد بلغت مبلغاً عظيماً في علوم السحر، وهذا مؤشر على انحراف مسار الحضارة البابلية. وقد تجلّت رحمة الله تعالى بإنزال مَلَكين لمواجهة ذلك الشر المستطير، ويُفترض أن يتمثل الملكان في صورة بشرية، وذلك لقوله تعالى في الآية 9 من سورة الأنعام: ((ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون)) . وقد صح في السُنّة أنّ جبريل، عليه السلام، كان يأتي أحياناً في صورة دحية الكلبي. ومعلوم أنّ هذا من الأمور الغيبية التي تُعلم بالنص، وقد صرّحت النصوص بذلك.
وإنْ تعجب فعجب ما قام به بعض أهل التفسير من صرف هذا النص الصريح عن ظاهره، وما ذلك إلا لأنهم لم يألفوا في حياتهم تمثل الملائكة في صورة إنسية. وهنا يجدر أن نلفت الانتباه إلى أنّ البشرية في فجرها هي كالطفل عند مولده؛ فهو يتلقى منا الرعاية الشديدة، وكلما كبر واشتد عوده تضاءلت حاجته لمساعدة الغير حتى يبلغ رشده. فنصوص القرآن والسُنّة تشير إلى أنّ الإنسان قديماً كان يتلقى المساعدة تسريعاً لنضوجه ودفعاً لتطوره، ومن أبرز صور هذا الدفع والتسريع الأنبياء والرسل. فلما بلغ الإنسان رشده خُتمت النبوّات الرسالات، ولا تزال رسالة الإسلام تُصَوِّب المسيرة وتُسرّع النضوج.
"وما أنزل على الملكين":
واضح من النص الكريم أنّ مهمة المَلكين تتمثل في تعليم الناس أموراً تتعلق بالسحر الذي استفحل شرّهُ في بابل. وبما أنهما ملَكان، وبما أنّ ما يُعلّمانه مُنزّل عليهما، فلا بد إذن أن يكون أمراً إيجابياً. والأقرب في المنطق أن يكون هذا العلم يتعلق بمضادات السحر من أجل إبطاله. وبذلك لا نحتاج إلى لَيِّ أعناق النصوص، لأنّ هذا هو ظاهر النص واللائق بمقام الملائكة وما ينزّل عليهم.
لماذا ملَكَان؟
كان يمكن أن يُنزّل هذا العلم، المتعلق بإبطال السحر، على نبي من الأنبياء، فلماذا أنزل على ملَكين متجسّدين في الصورة البشرية ؟
الجواب على ذلك يتلخص في كون الأمر لا يناسب مقام النبوّة والرسالة، لأنّ المخالفين قد درجوا على اتهام الأنبياء والرسل بممارسة السحر، بل لقد خلط أهل الكفر بين المعجزة والسحر. من هنا، وحتى لا تكون الشبهة وحتى لا يتم الخلط، تمّ تجنيب الرسل الخوض في مضادات السحر التي تُحتِّم الخوض في السحر.
"وما يُعلِّمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر":
واضح من النص الكريم أنّ الملكين يُخلصان النصيحة لكل من تعلم مُضادات السحر، ويظهر ذلك جلياً في استخدام (ما، ومن) في قوله تعالى: "وما يُعلِّمان من أحد". وهذا الحرص منهما يدل على خطورة الأمر وحساسيته. وتظهر هذه الخطورة في إمكانية انحراف المتعلم وانخراطه في أمور السحر، لذا كانت النصيحة المشدّدة: "إنما نحن فتنة فلا تكفر".
فمن أين تأتي الخطورة وإمكانية الانحراف؟!
من المتصور تماماً أنّ تعليم المضادات للسحر يقتضي التعريف بحقيقة السحر أولاً، ثم تعليم أنواع المضادات لهذا السحر. ومن هنا يصبح المتعلم مُلِماً بأساليب السحر وأنواعه، كما هو الأمر في الصيدلي الذي يلم بأنواع السموم ومضاداتها.
من هنا لا بُدّ من التذكير الدائم والوصيّة المتكررة، لأنّ المتعلم أصبح قادراً على ممارسة السحر بعد تعلّمه لمضادّاته، ومثل هذه الإمكانيات تغري النفوس غير القوية بالانحراف.

"إنّما نحن فتنة فلا تكفر":
جاء في الآية 35 من سورة الأنبياء: "... ونبلوكم بالشر والخير فتنة "، وجاء في الآية 15 من سورة التغابن: "إنما أولادكم وأموالكم فتنة ..."، وعليه فتعليم مضادّات السحر من قِبَل الملَكين يجعل المتعلم في حالة من المسئولية، فقد أصبح لديه القدرة على ممارسة شر السحر ونقيضه، فينبغي له أن يختار الخير ولا ينحرف إلى الشر المفضي هنا إلى الكفر بممارسة السحر.
واللافت في هذا المقام أنّ مثل هذه الوصية المشدّدة يحتاج إليها الناس عندما يكون الأمر على درجة من الخطورة والأهمية، كما هو الشأن في القَسَم الذي يُقسمه الطبيب والصيدلي عند التخرج.
"فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ":
وبعد أن تؤدّى النصيحة ويتم التحذير المشدد يتم تعليم ألوان من السحر، وعلى وجه الخصوص الكيفية التي يتم فيها التفريق بين المرء وزوجه. ولا شك أنّ ذلك من أشر الشرور، فقد صحّ في الحديث الشريف أنّ إبليس يُقرِّبُ من اتباعه من يستطيع أن يوسوس للزوجين بما يُفضي إلى طلاقهما. ويبدو أنّ التفريق بين الأزواج هو من أهم مقاصد السحر والسحرة، فحيث تكون المودة والرحمة والسكينة يكون الخير، وما السحر إلا محض شر.
"وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ":
وهذه حقيقة ينبغي أن تكون ماثلة دائماً في ضمير المؤمن، فلا يكون في هذا الكون شيء إلا بإذنه تعالى. فليكن التوجه أولاً وأخيراً إلى الله تعالى.
" ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم":
وهذا يدل على أنّ السحر لا علاقة له بالنفع، بل كُله يتعلق بالمضرّة ويخلو من المنفعة. من هنا كانت ممارسة السحر من أكبر الكبائر، وقد يصل حكمها إلى الكفر. ولو كان في السحر بعض الجوانب النافعة لأمكن عقلاً أن يأذن الشرع بممارسة هذه الجوانب. أمّا تعلّم مضادات السحر فلا تتعلق بالمنفعة وإنما بدفع المضرّة. من هنا كانت وصية المَلكين مشدّدة، لكي لا ينزلق المتعلم في متاهات السحر، ولكي يُسخّر علمه في دفع الضرر.
وقد يتوهم البعض أنّ المقصود بقوله تعالى: "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم": أنهم كانوا يتعلّمون ما يضر فقط، وهذا الفهم بعيد لأمور:
أولاً: لم يثبت أنّ للسحر جوانب نافعة.
ثانياً: لا يُعقل أن يتعلموا ما يضرهم فقط ويتركوا علم ما ينفعهم، لأنّ لدى الإنسان الميل إلى جلب المنفعة لنفسه أشد من ميله إلى إلحاق الضرر بغيره.
ثالثاً: جاء في النص الكريم: "يضرّهم"، وليس: "يضر غيرهم"، والإنسان لا يتعلم كيف يضر نفسه ويهمل ما ينفعها.
ولتقريب المعنى نضرب المثال الآتي:
إذا تعلّم الصيدلي عن السموم وتأثيراتها السلبية على الإنسان فإنه يكون قد تعلم ما يضر من السموم ولا ينفع. أما إذا تعلم أيضاً منافع السموم، فيكون عندها قد حاز علم ما ينفعه وما يضره من السموم. وعليه فإنّ السحر علم كله ضرر وليس فيه منفعة.
وهنا يجدر لفت الانتباه إلى أنّ العلماء قد اختلفوا في ماهية السحر وتأثيره؛ فذهب الجمهور إلى القول بأنّ للسحر حقيقةً وتأثيراً مستدلين بالحديث الصحيح الذي أشار إلى ما حصل من سحر الرسول، صلى الله عليه وسلم، من قِبَل رجل يهودي. في المقابل هناك من العلماء من ينفي أن يكون للسحر تأثير يتعدى كونه تمويهاً واحتيالاً.
يرجع الاختلاف في حقيقة السحر إلى كونه علماً مجهولاً لدى الغالبية من الناس، ويبدو أنّه ينتمي أكثر إلى العصور القديمة. ولأنّ الحاجة هي أم الاختراع فيتوقّع أن يكون لتطور العلم والتكنولوجيا تأثيراً كبيراً على تراجع دور السحر والسحرة. ولا نستطيع أن نجزم بمدى تراجع هذا العلم الشيطاني، لأننا لا نزال نسمع بممارسته، وعلى وجه الخصوص في العالم الغربي. وهنا لا بد من التنبيه إلى أنّ الناس في مجتمعاتنا العربية باتت تبالغ في مزاعم حصول السحر، ويرجع ذلك فيما يرجع إلى الجهل بحقيقة الكثير من الأمراض النفسية. والتجربة تؤكد أنّ الغالبية العظمى من حالات السحر المزعومة هي في الحقيقة حالات نفسية.
ليس هناك من دليل نصّي على أنّ للسحر تأثيراً في عالم الأشياء. ويبدو أنّ تأثير السحر ينحصر في عالم النفوس، وهذا ما تشيرإليه نصوص القرآن والسُنّة. فقد جاء في الآية 116 من سورة الأعراف: "... فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم"؛ لقد انحصر أثر السحر في أبصار الجمهور بحيث تخيلوا جميعاً أنها تسعى. ومما يؤكد ذلك ما جاء في الآية 66 من سورة طه: " فإذا حبالهم وعِصيُهم يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى"، فقد حصل التخيّل المنافي للواقع كنتيجة لممارسة السحر.