مسألة حول الفرق في المعنى بين الولوج والدخول:
جاء في الآية 27 من سورة آل عمران:" تُولِجُ الليلَ في النهارِ وتولجُ النهارَ في الليل...": جاء في عمدة الحفاظ، للسمين الحلبي، أنّ الإيلاج هو الإدخال. ونَقل عن الراغب في المفردات أنه الدّخول في مَضيق. ويبدو أنّ الراغب قد استفاده من قوله تعالى في الآية 40 من سورة الأعراف:" ... ولا يدخلونَ الجنّةَ حتى يلِجَ الجَملُ في سَمِّ الخِياطِ...". وجمهور أهل اللغة وجمهور المفسرين على أنّ الولوج هو مطلق الدخول.
الصحيح أن لا ترادف في اللغة، وعلى وجه الخصوص في الألفاظ القرآنية. من هنا نرى أنّ أهل اللغة وأهل التفسير لم يقصدوا إلى أكثر من توضيح المعنى بذكر أقرب الألفاظ المؤدية إلى إدراك المقصود. ونحن هنا نهدف إلى التفريق بين الولوج والدخول، لأنّ القرآن الكريم لم يستعمل لفظة الدخول عند الحديث عن تداخل الليل والنهار، على الرغم من تكرر ذلك في القرآن عشر مرّات.
هناك داخل وهناك خارج. فإذا تم الانتقال من الخارج إلى الداخل يكون هناك دخول، وإذا تمّ الانتقال من الداخل إلى الخارج يكون هناك خروج. يضاف إلى ذلك أنّ من فَعَل فِعلَ الدخول يكون أيضاً داخلاً، ومن فَعَل فِعل الخروج يكون أيضاً خارجاً. أما الولوج فليس فيه هذه المعاني؛ فبمجرد حصول المرور عبر الشيء يتحقق الولوج. انظر قوله تعالى:" حتى يلِجَ الجَملُ في سمِّ الخِياط"، فالجمل الذي هو الحيوان المعروف، أو الحبل الثخين الضخم، يعبر ثقب الإبرة فيكون دخول وخروج في آنٍ واحدٍ.
ويلاحظ أنّ الولوج يُعدّى بفي، لأنّ فيه معنى العبور. وكذلك الدخول يُعدّى بفي أيضاً. وقد لا يُعدّيان بحرف جر؛ فنقول: دخل في الدار ودخل الدار, وولج في الدار وولج الدار. فالولوج إذن هو عبورٌ في الشيء، أو وعبور الشيء.
جاء في الآية الثانية من سورة سبأ:" يعلمُ ما يلجُ في الأرضِ وما يَخرجُ منها...": والملحوظ هنا أنّ يلج يقابلها يخرج، مما يوهم أنّ يلج هنا بمعنى يدخل، لأنه عدي بفي وقابله الخروج. والصحيح أنّ ما يلجُ في الأرض هي أشياء تدخلها من خارجها كماء المطر، مثلاً، وتستقر داخلها. وأشياء تدخلها من خارجها فتخترقها وتخرج منها ولا تستقر داخلها كبعض أنواع الموجات القادمة من الفضاء. وأشياء هي أصلاً في داخلها وتنتقل خلالها. وعليه لا يكون معنى يلج مطابقاً لمعنى يدخل.
والليل لا يدخل داخل النهار فيتحيز فيه، والنهار لا يدخل داخل الليل فيتحيز فيه؛ وإنما ما ينقص من الليل يكون قد عبره النهار، وما ينقص من النهار يكون قد عبره الليل. سواء أكان ذلك بتعاقب الليل والنهار أو بتعاقب الفصول.
مسألة حول رفض إبليس السجود لآدم:
جاء في الآية 12 من سورة الأعراف: " قال: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، قال: أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين".
هناك أمرٌ حمل إبليس على أن لا يسجد لآدم على الرغم من صدور الأمر الإلهي له بالسجود. وأنت تُدهش أحياناً من سذاجة الطرح العلماني في مواجهة الإسلام؛ فهذا رأس من رؤوسهم يزعم أنّ إبليس كان موحداً عندما رفض السجود لغير الله. وكأنّ الرجل يريد أن يقول إنّ موقف إبليس ينسجم مع الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وبذلك يتناقض الدين عندما يعتبر إبليس خارجاً على الدين الحق!!
والمضحك المبكي هنا أنّ إبليس نفسه لم يفطن إلى هذه الحُجّة، ولم يقل:" يا رب كيف أسجد لغيرك؟!"، بل قال: "...أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقتَهُ من طين". الأعراف: 12
لقد كانت هناك محاكمة، وتبيّن أنّ إبليس يرفض الأمر الإلهي، انظر الآية 12 من سورة الأعراف: "قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ...". فالله تعالى هو الذي أمر أن لا نعبد إلا إياه. ولو أمرنا سبحانه أن نعبد سواه لكان علينا أن نفعل ذلك، لأنّ العبادة في الحقيقة هي طاعة الأمر الإلهي.
لقد تَعبّدنا اللهُ تعالى بطاعة أوامره، لذا نجدُ أنّ الثواب والعقاب يرتبطان بطاعة الأمر أو عصيانه. وهنا يجدر التنبيه إلى مسألة يخلط فيها الكثير من الناس؛ فإذا كان الإنسان قد فُطِر على حرية الاختيار بحيث نجده قادراً على موافقة الأمر أو مخالفته، فإنّه غير قادر على مخالفة الإرادة الإلهية. فلا مجال إذن أن يخرج المخلوق على الإرادة الإلهية إطلاقاً، ولكن يمكنه أن يخرج على الأمر، ومن هنا جاءت المسئوليّة.
ولو شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الناسُ أخياراً لكانوا كذلك، ولو شاء أن يكونوا أشراراً لوجدناهم كذلك. ولكنه سبحانه قد شاء أن يجعلهم مُخيّرين في أعمالهم التي يُسألون عنها. وعليه فإنّ العُصاة يخالفون الأمر الإلهي ولا يخالفون الإرادة. وكذلك الأمر عند أهل الطاعة، فإنهم يوافقون الأمر الإلهيّ ولا يخالفون الإرادة الإلهيّة، لأنّ الإرادة الإلهيّة هي التي شاءت أن تُخيّر الإنسان فيطيع أو يعصي، فيكون مسئولاً أمام الله تعالى عن طاعة الأمر أو عصيانه.
مسألة حول سجود أخوة يوسف له، عليه السلام:
قد ينحني الأب لطفلهِ فيرتحله ذلك الطفل كما يرتحل الدّابة. ولا شكّ أنّ ذلك مُحببٌ وكريم. ولكن لو كان هذا الأمر قد وقع بين مديرٍ ونائبه أو مساعده، على سبيل المثال، لحَمل معنى آخر فيه الكثير من الذلة والصغار. ولا شكّ أنّ الذلة من القوي للضعيف رحمة، بل هي من مكارم الأخلاق:" واخفض لهما جناحَ الذلِّ من الرحمة". من هنا ندرك أنّ السجود في حدّ ذاته لا حكم له حتى نعلم الدافع إليه والقصد منه. فإذا سجد الوالد لطفله ليرتحله جاز ذلك. وإذا ركع الإنسان ليساعد آخر على ارتقاء سور، فلا شكّ في جواز ذلك أيضاً. أمّا إذا كان الدّاعي إلى السجود أو الركوع هو الذلّة والخضوع، فإنه غير جائز شرعاً. ويتفاوت الحكم في ذلك بتفاوت المعاني والظروف، وقد يصل الأمر حدّ الكفر إذا كان عن قبولٍ ورضى وحمل معاني التقرّب والعبادة.
وما قلناه في السجود نقوله في تقبيل الحجر الأسود؛ فمعلومٌ أنّ المسلم لا يعبد هذا الحجر، ولا يرى فيه أكثر ممّا ورد في الشرع. وقد روي، في صحيح البخاري، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبّله فقال: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي، صلى الله عليه، يقبلك ما قبلتك". وما يقال في هذه الصورة يقال أيضاً في صور كثيرة مشابهة؛ كتقبيل الأم لرسالة ولدها الغائب، أوتقبيلها لثياب فقيدها. فالعبرة إذن للمعنى المختبئ وراء السلوك؛ ومن هنا يمكننا أن نميّز في الحكم بين موقف وآخر وسلوك وآخر، على ضوء النية والقصد والمعنى المستفاد.