جاء في سورة الصافات: " وإنّ إلياس لمن المرسلين، إذ قال لقومه ألا تتقون، أتدعون بعلاً وتذرون أحسنَ الخالقين، اللهَ ربكم وربَّ آبائكم الأولين، فكذبوه فإنهم لمُحضَرون، إلا عباد الله المُخْلَصين، وتركنا عليه في الآخِرين، سلام على إل ياسين، ....." الصافات: 123-130
اللافت أنّ كلمة إلياس كتبت في المصحف: (إلياس)، أمّا إلياسين فكُتبت هكذا: (إل ياسين). ومعلوم أنّ رسم المصحف في قول الجماهير هو توقيفي، أي عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وحياً. وكتابة (إل ياسين) على هذه الصورة تكشف لنا أنّ لفظة إلياس هي في الحقيقة (إل ياس). والـ إل في اللغة العربية - والتي هي الأقرب إلى اللغة السامية الأم - تعني الإله، وهي في بعض اللغات الساميّة (إيل)، وهذا يعني أنّ إسرائيل هي (إسرا إيل)، وجبرائيل هي (جبرا إيل أو جبري إيل). وإذا كانت (إسرا إيل) مضافاً ومضافاً إليه، كما هو الأمر في عبد الله، فإن الأمر في (إل ياس) يختلف فقد قُدِمت إيل على ياس.
تُصرّح الآيات الكريمة من سورة الصافات أنّ قوم إلياس كانوا يعبدون البعل. وقد صرّح جمهرة من أهل التفسير بأن إلياس هو (إيليَّا) الوارد ذكره في أكثر من سفر من أسفار العهد القديم. وقد دفعهم إلى هذا القول ما تُصرّح به أسفار العهد القديم من أنّ إيليا جاء ليُقاوِم عبادة البعل التي انتشرت في بني إسرائيل، متأثرين بالأمم المجاورة. يضاف إلى ذلك أنّ اسم إلياس قريب في لفظه من اسم إيليا الذي هو في الحقيقة (إيلي يا) من غير حرف السين. واللافت أنّ التلميذ الذي خلف إيليا في دعوته إلى التوحيد اسمه (إليشع) وهذا قريب جداً من اسم (اليسع) الوارد في القرآن الكريم، والفارق، كما هو ملاحظ، ينحصر في همزة القطع والوصل وفي السين، والتي هي في السامية الأم أيضاً سين وتقلب في العبرية شيناً.
يذهب بعض أهل التفسير إلى أنّ إلياس هو نفسه إدريس، ويدللون على قولهم هذا بالقراءة التفسيرية المنسوبة إلى عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، حيث قرأ:" وإنّ إدريس لمن المرسلين ... سلام على إدراسين". وهذا الذي ذكرناه تجده عند عامّة أهل التفسير، وقد رجّحه بعضهم. ويمكن أن يُعزز هذا القول الملاحظات الآتية:
أولاً: ورد اسم إدريس في سورة مريم وسورة الأنبياء، وورد اسم إلياس في سورة الأنعام
وسورة الصافات. وهذا يعني أنّ الاسمين لم يجتمعا في سورة واحدة. ولو اجتمعا في سورة واحدة لكان ذلك دليلاً على اختلاف المُسمى.
ثانياً: ذكر القرآن الكريم في سورة الأنعام أسماء 18 نبياً بينهم اسم إلياس، وذكر في سورة
الأنبياء أسماء 17 نبياً بينهم اسم إدريس؛ فعندما يذكر في سورة الأنعام في، أربع آيات، أسماء 18 نبياً يكون احتمال ذكر اسم إدريس و إلياس معاً كبيراً جداً. وعندما يذكر في سورة الأنبياء 17 اسماً يكون احتمال اجتماع الاسمين في إحدى السورتين أكبر. فما معنى عدم اجتماع الاسمين في سورة واحدة ؟!!
ثالثاً: ينتهي اسم إدريس بحرف السين وكذلك اسم إلياس، وهذا يُشعر بأنّ اللغة واحدة. ويُعزز ذلك ما نعرفه من أنّ السين في اللغة اليونانية هي علامة رفع للعلم المذكر- كما أشرنا عندما حللنا اسم يونس في بحث سابق.
رابعاً: جاء في الآيتين 56، 57 من سورة مريم:" واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان صِدّيقاً
نبيا، ورفعناهُ مكاناً عليا"، فالآية تشير إلى رفعه عليه السلام. واللافت أنّ النبي الوحيد الذي تنص بعض أسفار العهد القديم على رفعه هو إيليّا، ومن ذلك ما جاء في الإصحاح الثاني من سفر الملوك الثاني:" ... وفيما هما يسيران ويتجاذبان أطراف الحديث، فصلت بينهما مركبة من نار تجرها خيول نارية، نقلت إيليّا في العاصفة إلى السماء". ولذلك هم ينتظرون رجوعه قبل يوم القيامة، كما ينص العهد القديم ويشير إلى ذلك العهد الجديد أيضاً.
فالذي رُفِع في القرآن الكريم هو إدريس، والذي رُفع في العهد القديم والجديد هو إيليّا، وابن مسعود، رضي الله عنه، يقول إنّ إلياس هو إدريس، ألا يجعل ذلك الاحتمال قوياً.
خامساً: يونس في القرآن الكريم هو أيضاً ذو النون، ومحمد هو أحمد، ويعقوب هو إسرائيل.
ولا يستبعد إذن أن يكون إدريس هو إلياس. ونقول بلغة أخرى: يعقوب هو اسم النبي ولكنه بعد حادثة معينة دُعي إسرائيل، فغلب الاسم الجديد أو اللقب الجديد، إلى درجة أن يُقال: بنو إسرائيل ولا يقال: بنو يعقوب. من هنا هناك احتمال أن يكون الاسم إدريس هو الأصل وبعد حادثة معينة سمي إلياس.
إذا كان إيليا هو إلياس فإن ذلك يؤشر إلى احتمال أن يكون له، عليه السلام، علاقة باليونان، لأنّ السين في اليونانية علامة رفع تلحق العلم المذكر، ونلحظ ذلك في الكثير من الأسماء اليونانية. والاسم إيليّا مكون من مقطعين (إيلي+ يا)، ويرى بعض شراح العهد القديم أنّه يعني (الهي يهوه)، وهذا يعني أنّ إيلي تعني إلهي، وهذا صحيح. أما المقطع (يا) فلا دليل على أنّ المقصود به هو يهوه. والأقرب أن يكون الاسم إيلياهو هو الذي يعني إلهي يهوه.
ويُشكل عند النصارى مثل هذه الترجمة لاسم إيليّا، لأنّ المسيح قال في حق يحيى، عليهم السلام، في إنجيل متى الإصحاح 11 : " وإن شئتم أن تصدّقوا، فإنّ يوحنا هذا، هو إيليّا الذي كان رجوعه منتظراً". وبما أنّ إيليّا النبي غير يحيى، وقد جاء قبله بقرون، فإنّ العبارة تعني أنّ يحيى وإيليّا يلتقيان في وصف واحد وهو، في ظننا، ما أورده متى على لسان المسيح: " الذي رجوعه منتظراً" وفي ترجمات أخرى:" المزمع رجوعه". فالمشهور عند اليهود أنّ إيليّا سيرجع قبل يوم القيامة، وكذلك الأمر بالنسبة ليحيى وفق العبارة المنسوبة إلى المسيح. وهذا يعني أنّ معنى الاسم إيليّا يُحتمل أن يكون: (المزمع رجوعه). وحتى يتضح المقصود نقول: عندما تكون حادثة الرفع مشهورة وعندما يكون الرجوع منتظراً يغلب أن يطلق على المرفوع اسم فيه معنى تمني الرجوع، مثل: الله يرجع، الرب يعيد، إلهي يعيده ...الخ، ألا ترى أنّ اسم المهدي المنتظر قد غلب على اسمه الحقيقي. وهذا يعني أنّ علينا أن نبحث إن كان المقطع (يا) يأتي في اللغات السامية القديمة بمعنى (يرجع، يعود).
يلفت الانتباه في سورة الصافات أنه بعد الكلام عن نوح، عليه السلام، يقول تعالى:" سلام على نوح في العالمين"، وبعد ذكر قصة إبراهيم، عليه السلام، يقول:" سلام على إبراهيم"، وبعد ذكر موسى وهارون، عليهما السلام، يقول: " سلام على موسى وهارون"، أما بعد ذكر إلياس، عليه السلام، فيقول:" سلام على إل ياسين"، أي أنّ السلام ليس فقط على إلياس بل على مجموع، ومن هنا أضيفت الياء والنون.
إذا صحّت فرضيّة أنّ اسم إيليّا فيه معنى أنّ الله يُرجع، فناسب أن يكون السلام على الذين سيرجعهم الرب، أي الذين رُفعوا وسيتم رجوعهم. ومعلوم لدينا رفع عيسى وإدريس، عليهما السلام. وهناك مؤشرات نصيّة تشير إلى احتمال رفع يحيى، عليه السلام، أيضاً. وليس هذا مقام تفصيل ذلك.
وبما أنّ الرب المُرجِع واحد، وبما أنّ الراجعين جماعة، فناسب أن يتم فصل إل التي تعنى الإله عن ياس، لتكون إضافة علامة الجمع إلى المقطع الذي يشير إلى الراجعين. وأخيراً نجد من المناسب أن نلفت الانتباه إلى أنّ السورة التي تسبق سورة الصافات في ترتيب المصحف هي سورة يس، والتي تستهل بالحرفين يس ويلفظان هكذا: (يا سين)، وتختم السورة بقوله تعالى: " وإليه ترجعون".